in

هل من ذاكرة لأقدامنا؟…

اللوحة للفنان أندي دِنزلر facebook.com/andy.denzler

كفاح علي ديب *

“ماذا يعني الوطن؟!”… سؤالٌ يطرحه عليّ بإلحاح بعض الصحفيّين والأصدقاء الألمان، حين أتحدّث عن دمشق.

تتزاحم المعاني في ذاكرتي عن الوطن ، فأجد أنّ ليس بوسع معنى بمفرده أن يحدّد مفهوماً للوطن. فالوطن تارةٌ، هو الجامع لخبراتنا ولفرح نجاحاتنا، ولبكائنا على الخيبات والانكسارات. وتارة أخرى، هو العائلة، حياتنا اليومية، أصدقاؤنا الذين اخترناهم بملء إرادتنا، وتلك الشوارع الممتدّة في الحنايا، وأرصفة انتظار الحبّ الأوّل. ماذا يعني الوطن …

الوطن أيضاً هو الغصّة العالقة في الحلْق، والدموع المنهمرة  لسماعنا أغنية وطنيّة. هو الشعور بالمسؤوليّة تجاه بقعة جغرافية محدّدة بعينها، والرغبة الدؤوب في الدفاع عنها، وتجميل صورتها، وإن كانت بين فكّي الحرب.
ليتني استطعت البقاء في الشام! لكنت وقفت إلى جانب صديقي الفنّان منير الشعراني، أتفرّج عليه وهو يخطّ بعشق عبارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش ” في الشام مرآة روحي.
دمشق/الشام، ليست مسقط الرأس، إنّما وُلدت في مدينة اللاذقيّة الساحليّة. بيد أنّي في دمشق وجدت نفسي. فيها، كنت في المكان الصحيح!

من دمشق، أُخْرِجْتُ عُنوةً، فتشظّت المرآة، وتبعثرت الروح.
منذ وصولي إلى برلين، وجدتُني أفتّش في تفاصيل هذه المدينة، وأحتفي كلّما لَقِيْتُ تفصيلاً يشبه أحد تفاصيل دمشق. بداية، كنت أظنّ أنّ هذا البحث شكل من أشكال الحنين، وأنّ الأيّام كفيلة بالتخفيف من حدّته. فأيّ ظنّ كان؟! فالأيّام والشهور والسنين انقضت، وها أنا الآن، أحتسي قهوتي في مقهىً رصيفي،ّ اخترته لأنه يشبه بعض مقاهينا. وما أزال أقفز فرحاً إذا ما وجدت زهرة بنفسج في حديقة عامّة، وأحزن على الياسمين المحبوس في أصص صغيرة، بدل أن يُعرّش على الأبواب والنوافذ، مثلما يعرّش على أبواب دمشق ونوافذها.

الحنين حنظلٌ في الحلْق، وكلما تعتّق ازدادت مرارته!
أصدقائي السوريّون المشتّتون في بلدان مختلفة، يخبرونني دوماً بدهشة طفوليّة: “اليوم وجدنا دكاناً يشبه دكاكيننا! أو مطعماً يقدّم مأكولات سوريّة! أو باراً يشبه باراتنا، وبناءً يشبه أبنيتنا! وشارعاً أحسّوا أنّهم مشوا عليه قبل اليوم!” هل من ذاكرة لأقدامنا، تتعرف على الأرصفة بمجرد أن تطأها؟
بعيداً عن الوطن، تخضع تفاصيل المدن الغريبة للقياس والمقارنة بينها وبين تفاصيل مدننا القابعة في الذاكرة.
هنا في البعيد، ما يشكّل الوطن ليس ذاكرتي وحسب، بل ذواكرنا السوريّة جمعاء.

ويباغتني السؤال: ماذا عن الذين جاؤوا إلى هنا أطفالاً أو يافعين؟
لا بدّ، ستملأ تفاصيل البلدان الغريبة ذواكرهم. سيخوضون تجاربهم ويبنون حياتهم، لتصبح هذه البلدان أوطانهم. في حين سيبقى ارتباطهم بوطنهم الأمّ عبر ذواكر أهاليهم، أو ذاكرة شبيهة بذاكرتي!

اقرأ أيضاً للكاتبة:

شرفات
لنغلق الحدود في وجه اللاجئين
بيت العائلة.. من يوميات المنفى
على ممر الدراجات

ماذا تفعل إذا تعرضت للتمييز عند بحثك عن سكن في ألمانيا؟

بينهم رضيعين، لاجؤون في حاوية شحن في ميناء لوبيك