in

ما بين غربةٍ أعرفها… إلى مجاهل هذه الغربة

اللوحة للفنانة ريم يسّوف

خلود شواف*

كنت غريباً في بلدي، اعتدت غربتي بين أناسي، شيب غربتنا يعلو رأسي. ولكن هذه الأيام ولدقة اللغة العربية صرت رسمياً “الغريب” في بلدٍ ليس بلدي.

كان ينقصني “ال” التعريف لكي أصبح كامل الغربة، “ال” التعريف عرّفت مانُكّر بي، فأصبحت غريباً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. يجتاحني شعور المضطهد عندما أمشي في شوارع الغربة، تحرقني جفوني أمام وجوهٍ لم أعتد رؤيتها. ليس هذا فحسب بل يجرحني الجهل اللغوي كطفلٍ يهزأ من عمري. ويُلزمني بتعلم لغةٍ غربية، وأنا بالكاد أتقنت تعقيدات لغتي. 
أتذكر كم مروةً وبختني أمي وأنا ابن عشر كلما -تأتأت- بالحروف.

اليوم ماذا تُراني فاعل؟

أدخل صفوف المدارس والطفل داخلي يقهقه ساخراً، أستيقظ صباحاً باحثاً عن النهار، باحثاً عن الشمس التي كانت خيوطها تتسلل لخوالجي تعطيني شيئاً من ذبذبات الفرح أمضي بها يومي. لكنّ النهاريمضي هنا ولا مكان لها، لاشيء سوى تعاقب الليل والنهار، كأنني أحيا في فيلمٍ سينمائي قديم بالأبيض والأسود.

ألوان المسرح لا تلمس روحي، لانهر يموج ولاعصافير بألوانٍ قُزحية، حتى الشجرأمرُ به دون حاجةٍ لأتفيأ ظله، بل يبدو يائساً أكثر مني، ففي خريفٍ طويل سقطت أوراقهُ راجفة أكثر من جسدي تحت قميصي. يُبللني مطر كنت أعشق أن أمشي تحته لمجيئه بعد غياب، لموسيقاه التي تحرك فيني العشق، لرقة حباته وهي تلامس معطفي. اليوم أشعر به واخزاً، يبلل تراتيل روحي الماثلة خلف نوافذه، فأدخل أحدالمقاهي، أشرب قهوتي العربيةغريبة الاطوار، لتخذلني في كل مرة ولاتهبني الدفء الذي أرجوه، أطلبها مراراً علّ روحها بإحدى المرات تستحضر نفسها في حضرتي، لكن دون جدوى، لدرجة أنني في منزلي بدلت الفناجين أكثر من مرة، اعتقاداً مني أن أحرف العلة ممزوجه بزجاج فناجيني لكن لم يتغير شيء.

حينها فقط أدركت عجزي عن إسقاط ما مضى على ماهو أمامي. رغم أن البنّ هو ذاته، لكنّ ما غاب هو أولئك الذين كانوا يشعروننا بحلاوة القهوة المرة، أولئك كانوا قطع السكر.
أتركُ مقعدي البائس في المقهى وأخرج، أعبر الشوارع، أنظر الى ساعتي مستعيراً مصدر الاستغراب من غربتي، فإذا بها السادسة، الوقت الذي كنت أتهيأ فيه عادةً لأخرج من المنزل وأصوات المارة تصلني قبل أن أصل إلى الشارع، بينما اليوم لا شيء سوى هدوء يصرخ فيه ضجيج حزني. لم أنا في هذا البلد العجوز؟ لم رحلت عن غربةٍ أعرفها إلى مجاهل هذه الغربة؟

قلة الكلام جعلتني أبتلع لساني، فتراني جالساً أتحدث في داخلي أصرخ أتألم ساكناً مثل هذا العالم الخارجي، أسير حاملاً نفسي الزاهدة الغريبة حتى عني، أدخل شقتي التي سئِمت رؤيتي كل يوم، أضطجع على فراشي والذكريات تخزعقلي، تحمل كل أشرطتها في ذهني، تدب روح الطفولة النائمه صارخةً، متمسكةً بخيط وجودي، أتمنى أن أنصهر بها لكن يلتحم النوم بجفوني فأصاب بفقدان الذاكرة ريثما يأتي يوم آخر، غريب مثل قبله وأكون فيه الغريب الجديد، إلى أن يجوع وطني ويلتهمني، لأعود إليه غريباً تسقط عنه الغربة.

اقرأ أيضاً:

ماذا يعني الوطن يا أنا؟

من لا يغادرهم الوطن حتى لو فارقوه: الكاتب رفيق شامي مثالاً

بالاحترام والأمان والاستفادة من الفرص .. هكذا يجد الوطن طريقه إلينا

بالرغم من اتهامه بنشل المتعة من لعب برشلونة، فالفيردي على خطى غوارديولا‏

عصابات شيشانية إجرامية تنتشر في ألمانيا