in

لم أُعرّفكم بي بعد

صرتُ أكثر حزنًا من أحمر شفاهٍ مهمل قرب مرآتها

ريم رشدان.

سعيدةٌ جدًا هذه الأيام، فأنا أخرج كل يوم رفقة صديقتي الجديدة -لن أقول مالكتي- فالعلاقة بيننا تجاوزت مُجرّد أن تملكني أو أكون لها. أنا الآن “إيدها و رجلها” كما تقول عني بعاميّتها العربية وفي الواقع أنا أطير فرحًا كلما سمعتها تقول عني ما سبق.

لم أُعرّفكم بي بعد، أنا درّاجة ريما أو كما يحلو لها أن تطلق عليي “بسكليتي” أو “رفيئتي، قُدّمت كهدية لها منذ ما يزيد عن سنة ونصف، إلا أنّها لم تبدأ باستخدامي بشكل منتظم إلا من حوالي السنة تقريبًا لتنضم بذلك إلى أكثر من أربعة ملايين شخص يستخدمون الدراجة الهوائية على الممرات الآمنة كبديل عن وسائل المواصلات المتنوعة هنا في ألمانيا.

ربّما كانت معيشتها في مدينة صغيرة في الشمال -لا تكاد تُرى على الخريطة- تعاني فيها من عدم توفّر المواصلات العامة بشكل منتظم؛ هي السبب الرئيسي الذي أجبرها على التفكير باقتنائي أولاً واعتمادي لاحقًا كصديقة ووسيلة تنقلها الرئيسية، ولكنني بكل الأحوال سعيدة بهذا، فبإمكاننا معًا أن نتجول في كل زوايا مدينتنا “لوبتين” خلال ساعة واحدة من عمر الزمن. قبل ذلك، كنت هدية  “الفايناختن”  لمراهقة ألمانية لم تعجبها ألواني غير البرّاقة فخابت بي وخيّبتني، ثم ركنتني في كراج بيتها عدة أشهر قبل أن تهبني للصليب الأحمر، الذي بدوره أهداني لعائلة صغيرة من أولئك الوافدين الجدد لتستخدمني المرأة كما كان يُفترض، إلا أن خيبتي تجدّدت وبقيت مدةً طويلةً رهينة غرفة التخزين، وحين سُئل عني أعادني الرجل قائلاً إنه “ما عندهن نسوان تسوق بسكليتات”، وهو شيء لم أفهمه حقيقة، لأنني رأيت زوجته وأعرف تمامًا وجيدًا أنه “عنده نسوان!”

إذن، في النهاية، ساقني القدر لأكون رفيقة ريما في حياتها الجديدة في المنافي الألمانية الملامح.

عندما وصلت إليها لم يكن لديها أدنى فكرة عن كيفية التعامل معي. بدايةً كان عليهم قص وتصغير طول المقعد لأدنى مستوى ممكن ليتناسب مع طولها. بعد ذلك عاينتني قليلاً وقالت بتكبّر: “حسنٌ لا أظن أن استخدام هذه سيكون أصعب من قيادة السيارة، أنا أقود سيارة منذ سنوات”.

هنا شعرت بالإهانة ثم قلت لنفسي: لا بد أن أجعلها تعلم بأني أصعب من أصعب سيارة، وعلى هذا فقد تسببت لها بالكثير من الأوقات الصعبة أثناء محاولتها تعلم قيادتي، كانت عنيدة جدًا، وكنتُ أعند منها وفي الواقع أعجبني هذا التشابه بيننا، لكنني لم أستسلم لها، بل تركتها تستسلم، وقد حدث ذلك في يومٍ عندما تعمّدتُ حادث أن أُسقطها عني في قلب الغابة متسببةً لها بالتواءٍ قاسٍ في الكاحل، وألمٍ شديد ترتب عليه أذى حقيقي لاضطرارها للمكابرة واصطحابي مشيًا عودة إلى البيت.

بعد هذه الحادثة، ظننتُ أنها استسلمت واختلطت عليّ مشاعري حقيقةً بين مزيج من الشماتة و الفخر بالنصر الصغير وبين القلق من كوني سأُرْكن من جديد في زاويةٍ مظلمةٍ في إحدى غرف التخزين وهذا ما حصل فعلاً.

أهملتني ريما تمامًا لعدة أشهر، كنت أظن خلالها أنها تحتاجُ لوقتٍ فقط كي تتعافى من إصابتها وتعود للمحاولة، لكنني خلال هذه الفترة سمعتُ أحاديثًا كثيرة عن انكسارات أكبر وأكثر ألمًا من الكسر الذي كدتُ أن أتسبب لها به. سببها شيء يسمونه الحرب، شيء لم تكن لي القدرة على تصوره مطلقًا لكنني استطعتُ أن أدرك جيدًا بأنه بشع جدًا . فهي إنسانة قوية لم تكن لتستسلم لي أبدًا لو أنني وصلتُ إليها كما كانت منذ سنوات، ولكن ما فهمته أن هذا الشيء المسمى حربًا يُشكّل البشر من جديد على هيئاتٍ أُخرى لا تشبههم. بين الموت والفقد، الغارات والأشلاء، المعتقلين والشهداء! ثم يأتي اضطرارهم للرحيل، وخوضهم لرحلات الموت بين البر والبحر، والفوارق المعظمة بين الـ هنا والـ هناك، وكل هذه التفاصيل التي تحفر في سكون الجراح حتى لا تنام. و كأنّ القهر يعرف جيدًا كيف يجد عناوينها حتى ولو كانت تعيش في مدينة صغيرة في الشمال لم يسمع بها أحد ولا تكاد تُرى على الخريطة!

شعرتُ بالأسف الشديد وندمتُ حقًا، وقررت بيني وبين نفسي أن أُساعدها لتنطلق بي مباشرةً حين تحاول معي من جديد. لكن هذه الخطوة تأخّرت كثيرًا، كنت أنصتُ لبكائها في الليالي وأنتظر بتحفّز وقع خُطى أقدامها على عتبات المخزن أو صوت إدارة المفتاح في قفل الباب.

صرتُ أكثر حزنًا من أحمر شفاهٍ مهمل قرب مرآتها، أو زجاجة عطر نسيتْ كيف يكون تعلّق قطرة منها، بخيط من ثوبها.

وحده الأمل الذي ينام إلى جانب الجمال في صباحات تلك المدينة، كان يلقي علينا التحية مرارًا محاولاً الإصلاح بيني وبين ريما، وقد نجح في صباح يوم ربيعي دافئ بعد عيد “الأوسترن” بأيامٍ قليلة فقط، فُتح المخزن ورأيتها هناك، تقف بالباب للحظاتٍ، ثم توجّهت نحوي متحدّية وهي تقول: “يا أنا يا أنتِ” أجبتُها مباشرةً بصخبٍ صامت “بل أنتِ، أنتِ، أنتِ!”

سارتْ بي في الممرات الضيّقة نحو الغابة القريبة وهناك عند بداية الجسر المُمدّد فوق النهر الصغير كان لقاؤنا الحقيقي الأول.

طارت بي في لحظةِ انعتاقٍ وليدة. ضحكت عاليَا ببهجةِ طفلة، ثم أشرعت ذراعيها للريح وانطلقت باتجاه الأفق. رأيتُ أشياء كثيرةً تتساقط خلفها في تلك اللحظة:  الحزن، التيه، الظلم، عتمة السجون، والكثير الكثير من البكاء.

لكنَّني متأكدة أن شيئًا من بقايا تلك الروح، لم يعد أبدًا!

دعوة للتقديم: ورشة عمل في مجال صحافة الكوميك في ألمانيا

رواية لالين … “أمشاج من اللاهوت والحب والسياسة والحرب”