in

سوريلي .. سوريلي

اللوحة للفنان الكبير نذير نبعة

عبد القادر الجاسم*

لم يجل في خاطري أنني سأُمنع من الجلوس في تلك الغرفة الأنيقة، مع أنني قدّمت نفسي باحترام كما أذكر، فكل ما كنت أُعدّ نفسي له أنني سأقابل مدير مدرسة.

فجأةً وجدت نفسي في موقفٍ استثنائي، شعرت لوهلةٍ أنني فأرٌ صغيرٌ محاطٌ بعصابة من القطط، وقد بدا الجالسون كـ “هوارين المزبلة” متحلقين حولي على الكراسي؛ في حين كان كبيرهم (المدير)، يوجّه إليّ الشتائم التي لم أفهم منها سوى قوله “سن سوريللر”.

لم تطل المقابلة كثيراً، ومع ذلك فقد تضمّنت الكثير من الازدراء الذي لمحته من طريقة الكلام، مع فيض من انعدام الاحترام، تجلى بالاتكاء المبتذل على الكرسي، و”شوبرة” غير لائقة، وملامح متجهّمة، مع قليل من الريق الرطب، حدّ من جفاف المقابلة وفظاظتها في ثلاث دقائق.

فرصةٌ واحدة وجدت فيها سانحة الهرب، ففعلت إذ رأيت ذلك من أَولى واجبات حفظ الكرامة. ولأن الموقف لم يكن بالحسبان، فلقد تطلّب مني ساعةً من مشيٍ عبثيّ، متقمّصاً دور هائمٍ ساهمٍ دون قصد، لكن لفائف السجائر عملت عملها وهدّأت روعي إلى حين.

فجأة تلبدت سماء المدينة وشعرت بالحاجة الملحة للذهاب إلى البيت، فاتجهت إلى المتروبوس وصعدت، شعرت بنوعٍ من الارتياح إذ تمكنت من إيجاد مقعدٍ فارغٍ لرحلة العودة ـولم يكن ذلك معتاداًـ لأراجع فيه مجريات المقابلة المحزنة. لكن سرعان ما تبدّد ذلك الارتياح، فقد تفاجأت بأحد “الهوارين” قبل قليل كامناً في المقعد المقابل متربّصاً بي.

قلت لنفسي “كملتْ، ما خلصنا من المدرسة لحقوني ع المتروبوس”. وإذ بـ “الهارون” يشير إليّ أن أجلس بجانبه. فتعمّدت التجاهل، وأشحت بنظري عنه، ثمّ ثنيت برأسي بعيداً، متصنّعاً الاهتمام بشيءٍ عبر الزجاج، لكنّه فاجأني بفظاظة غير متوقّعة بخطوته نحوي، والجلوس بجانبي.

قلت لنفسي حينها: يبدو أن المتروبوس الفارغ ليس سعداً ولا راحة كما توهّمت. ثم ربّت الرجل على فخذي بحميميّةٍ مفاجئة وسلّم بعربية سورية فصيحة. قلت له: وعليك السلام!! أنت سوري إذن؟

قال: نعم، مدرسٌ في تلك المدرسة.

قلت: أعانكم الله على هذا المدير يا رجل، كيف تتعاملون معه؟

قال: ماشي الحال، بدنا نعيش.

قلت متلهفاً: بالله عليك، ماذا كان يقول، ولماذا كان يشتم السوريين؟

قال: كان يقول أنتم – السوريون- غير منضبطين، ومثيرو مشاكل، ومزوّرون، لا حاجة لنا بكم، حلّو عن سمانا..

قلت: إن شئت الصراحة، هنالك شيء صحيح فيما يقوله، ويبدو أن السوريين قد أتعبوه حتّى أخذ هذه الفكرة السيئة عنهم. أرجو ألا تُعمَّم هذه الفكرة السيئة عند الأتراك، وألا يكون بقية الأتراك كحال هذا الرجل.

ردّ متنهّدا: أتراك!! أيّ أتراك؟ هذا المدير سوريّ، ولقد مُنح الجنسية التركية قبل فترة.

عبد القادر الجاسم / كاتب سوري مقيم في اسطنبول

اقرأ ايضاً:

طبيب نفسي وأربعون حرامي

أسئلة “الوطن” التي لا تنتهي

ميركل تأمل بإيجاد منظومة أوروبية موحدة لحق اللجوء

ميركل بعد تصريح وزير داخليتها: الإسلام جزء من ألمانيا