in

خيبة

بعد أكثر من أربعين عامًا على هذا الكوكب الأزرق، مقابل عدد هائل من الخيبات! كانت أحلامي  صغيرة وطبيعية ضمن المقياس البشري العام، إلا أنني لم أنل تمر العراق ولا عنب اليمن، بل حطمت الرقم القياسي في حصاد الخيبات.. الخيبة الأولى كانت عندما فتحت عيني في هذه البقعة الجغرافية من الأرض الحبلى بالأحداث والحزن وانتظار شيء لن يأتي للأسف، لم أكن أستوعب وقتها لما هرعوا كي يعصروا الليمون في عيني ثم قاموا بلفّ يدي ورجليّ وجسدي بقطعة قماش قاطعين أي أمل لي بالاحتجاج أو الحركة أو حتى التثاؤب والتمطمط بحرية أسوة ببقية البشر.. ما فهمته أن هناك ضرائب لا بد أن أتحملها حتى أصل إلى تلك المرحلة التي أصبح فيها مواطنًا صالحًا.

صعود سلم الخيبات بدأ بتسارع رهيب كأنني في سباق مع الخذلان، والمشكلة كانت دائمًا في اعتقاد الكبار أنني أمكث في النعيم مقارنة بالجحيم الذي عاشوا فيه طفولتهم وشبابهم، ومع أنني كنت على يقين بأنه ليس هناك من جحيم أكبر مما أنا فيه سوى أن أتحول إلى جسد بلا رأس مثلاً، إلا أن إصرار أستاذ التربية الوطنية على أنني أعيش في الفردوس المفقود جعلتني أشكك في قدرتي على محاكمة الأمور، لكن استمرار وابل الخيبات المشار إليه، كان يؤكد أن هناك أحدًا مصاب بالانفصال عن الواقع أو مريض بالزهايمر، أنا أو أولئك الذي يرسمون مساراتي كأنني مجرد رقم في دفتر العائلة وسجلات النفوس!.

خيبة البحث عن وظيفة وحبيبة ومنزل، عدا عن الخيبات التي تجبر على حملها قسرًا لأنها تدخل في تركيب الخريطة الوراثية المليئة بأمراض نادرة مثل السكري وضغط الدم وتضيُق الشرايين، خيبات تنتقل مع السعال والمصافحة والابتسام في المجالس العامة كنوع من النفاق الذي لا يعرف أحد سببه بالضبط، فالجميع قابعون تحت خط الفقر بعشرات الدرجات، وتحت خط الحب وخلف ظهر الإنسانية والسعادة وفي مواجهة كاملة مع كل شيء رديء في هذا العالم المتحضر.

خيبة العرب والعروبة، كانت من الخيبات التي تجعلني في كل صدمة أقلب على ظهري من شدة الضحك، لأن ثقافتي وتركيبتي الشخصية تصر على شرب المقلب في كل مرة غير مستفيد من التجارب والظروف السياسية العربية التي تؤكد أن هذا “التابوت الممتد من المحيط إلى الخليج” كما يسميه الماغوط، قد أصبحت رائحته تزكم الأنوف ولم يبق سوى إعلان الوفاة بشكل رسمي والشروع بطقوس الدفن، يقول صديقي إن العرب فقدوا صلاحيتهم منذ زمن طويل، وأنا أعرف أنني بعد أكثر من أربعين حولاً من الأعصاب المتوترة والخائفة، لا أجرؤ عمليًا على انتقاد مختار الحارة، كان لزاما علينا أن نعيش فصام شخصياتنا وسط هذا الكم الهائل من النفاق ومحاربة طواحين الهواء بحثا عن الاستقرار والاطمئنان. كننا نتمنى أن ننام ملء جفوننا عن شواردها كما يقول الشاعر، لنستيقظ ونمشي في شوارع المدينة وفي الحدائق والكراجات دون أن نضع الكمامات الواقية، ودون ان نكون مذعورين من بعضنا البعض، لكننا استيقظنا والجثث تملأ المكان والوباء قد سيطر على المشهد.. لم تكن الورود الطرية الملقاة بعنف على الطريق والكم الهائل من الخراب قادر على استحضار الأمل وبث الحياة في الشوارع الخائفة، لم يكن في كراستي شيء سوى قائمة الخيبات الطويلة التي (دوبل) عددها أكثر من سنوات عمري بكثير!.

لا أدري إن كان اللجوء آخر خيبة يمكن أن ألاقيها على هذا الكوكب “الكحلي”، فمنذ اللحظة التي حزمت فيها حقائبي حاولت أن أنسى دفاتر الديون القديمة للحزن، وبت مستعدا تماما لاستقبال هذا التنظيم المحكم لكل شيء في الحياة في بلاد أخرى لم نكن نعرف عنها الكثير، في ظل هذا الحشد الكبير من البشر الودودين الذين يحاولون مساعدتك وإرشادك والترحيب بك طوعا، لا بد لانتمائك أن ينمو هنا في هذه الأرض، وتشعر بعلاقتك الوطيدة مع ما نسميه حضارة الآخرين، في الحقيقة نحن لم نتخيل هذا الكم الهائل من الاحترام والإنسانية!.

لا يمكنك إلا أن تحترم أولئك الناس الذين يعتنقون الإنسانية بثقة وقناعة تامة، وبالتأكيد عندما تكون صادقا معهم سيفعلون نفس الشيء.

أربعون عاما من حصص التربية القومية والتربية الوطنية وحصص التاريخ والجغرافية وعبارة أمة عربية واحدة، لم تجعلك تشعر بالانتماء الحقيقي للوطن الذي تسكن فيه!. كل حفلات الدبكة والاعراس الوطنية والمؤتمرات والندوات الحوارية لم تجعلك تجرؤ على الحوار مع جارك الذي شيد ثلاث طوابق مخالفة معتبرا نفسه أكثر وطنية منك بأشواط، استدعاؤك لقسم شرطة كشاهد لخمس دقائق، تنسيك آلاف الساعات التي قضيتها وأنت تشاهد الشرطة في خدمة الشعب وأرضنا الخضراء وحماة الديار، في المقابل فإن عامًا واحدًا في بلاد اللجوء وأنت مجرد غريب في المقياس العام، تشعر بالانتماء لهذا البلد الجديد وتدافع عنه.

ليس لدي ما أتحسر عليه سوى أصدقائي، كل ما أريده هو معانقتهم ومعرفة أحوالهم ومواعيد الكهرباء والماء لديهم، أريد أن أخبرهم تمنياتي بانتهاء سلم خيباتهم في بلدان يسمونها هناك بالأوطان، تلك الجغرافيا العائمة فوق بحيرات من النفاق والظلم والفساد، تكاد تتحول إلى بقع من الدم تطفح فوق جلدي، أنا اللاجىء غير الأخير في سلم الإنسانية، أتمنى دفن خيباتي الآن!.

 

 

الشرق معلبًا كطردٍ بريدي “من يوميات المنفى”

موسيقي سوري يحيي 50 حفلة في ألمانيا في أقل من سنة