in

الانفلونزا، الرصاص والسيدة آنّـا

اللوحة للفنان ياسر صافي

حسام قلعه جي*

السيدة آنّـا موظفة دائرة الهجرة، مريضة ولم تأت اليوم إلى العمل، حرارتها مرتفعة وتتصبب عرقاً وهو أمر مؤسف للغاية.. لا شك في أنها ستتحسن في المساء عندما تشرب منقوع الزنجبيل والنعناع وتستمع لموسيقى هوفمان.

آنّـا التي يقبع ملفي على رف مكتبها بارداً كئيباً ينتظر أصابعها النحيلة لتباغته ذات صباح. ملفات من ورق تخشى الرطوبة دوماً ولكن لا خوف عليها فالمكتب دافئ حتى في أيام العطل.. ولكن آنّـا مريضة.

نزلات البرد التي تصيبنا غبيةٌ غالباً، فكل ما تفعله أنها تجعلنا مرضى طريحي الفراش ليومين أو ثلاثة أيام ثم تذهب لتكرر المحاولة بعد حين، أسأل نفسي دوماً ما الذي ستستفيده الانفلونزا في تأخير الأمر، وكيف لنا أن نفسر تصرفاتها الطائشة؟ أين يكمن منبع سعادتها حينما تجعل ملاكي آنّـا مريضةً محتقنة الحلق باردة الأطراف.

زوجتي وأطفالي هناك أيضاً مرضى مثل السيدة آنّـا، وربما يشربون مثلها منقوعاً حاراً للغاية ويفكرون بالملف الذي استقر على الرف الحديدي هنا.

أنا وزوجتي وأطفالي نفكر بالملف، نشعر بوحدته ونحاول أن نواسيه بأفكارنا الشاردة وأن نصنع له منقوع النعناع إن شعر بالرطوبة تسري بين ضلوعه، نتمنى له أن يثرثر مساءً بعد أن يذهب الموظفون مع ملف آخر فنحن نقدر مأساته، معاناته، وإحساسه بالغربة، وقد طلبنا منه بطيبة قلب أن يقيم علاقة صداقة عابرة وسريعة لا طويلة الأمد مع ملفٍ لأناس آخرين، شريطة ألا يتأثر كثيراً بالقصص الحزينة الأخرى لأن البكاء سيضر بصحته وبأسمائنا المكتوبة فيه على عجل.

نختصر أمنياتنا في أن يكون لغلاف ملفي لونٌ جذاب يوافق لون شال الحرير الذي أهداه لآنّـا حبيبها في عيد الحب العام الماضي، وأن يكون الأول دائماً على الرف لتلتقطه أصابع آنّـا.

محظوظٌ ذاك الملف الذي يفكر فيه ستة أشخاص بمن فيهم آنّـا. المشكلة الآن كيف سيكون بإمكاننا أن نقنع الرصاص في مكانٍ ما بأن يستريح بضعة أيام من أجل الجميع، وأن يقدر طريقة التفكير الغريبة للانفلونزا. ولكنّ الرصاص مثل الانفلونزا.. غبيٌ بالفطرة وذو رأس عنيد ومتفجر… وآنّـا مريضة.

كيف سنقنعه أن يتوقف طيلة العام المقبل من أجلي أنا ومن أجل عائلتي ومن أجل السيدة آنّـا التي تآلفت مع الملفات، ومن أجل ملفي أيضاً حتى لا تلتهمه فرامة الورق بغتة.. ولكن آنّـا مريضة.

في الليلة الماضية اتصلت بزوجتي وأطفالي على الفايبر، أمسكنا أيدي بعضنا تمتمنا، توجهنا إلى الرب بصلوات إضافية والتمسنا منه بخشوع أن يشفي “فراو آنّـا” لتعود إلى مكتبها صباح يوم الإثنين.

حسام قلعه جي. كاتب من سوريا

 

اقرأ أيضاً

هكذا شاركت أمي في الحرب…

بسكليتة كورس 83

بلاد اللجوء ليست الجنة… لسنا واهمون لكنّ الموت ذلاً ليس أهون من الرصاص، ولهذا اخترنا ألمانيا

كيف عبث كوبر بقلوب 100 مليون مصري

بدء محاكمة الشاب الذي اعتدى على إسرائيلي يضع “كيباه” في برلين