in

موازاييك الحصار: النسيان فعل انتقامي وقتل مفرط النظافة

الصورة للفنان حسين حداد

نيرمينة الرفاعي

موزاييك الحصار، كتاب أقرب إلى المذكرات الشخصية كتبها الشاعر الدكتور عبد الوهاب العزّاوي لتوثيق حصار دير الزور الثاني الذي بدأ في النصف الثاني من شهر حزيران 2012، لاحقًا الحصار الأول للمدينة والذي كان في آب2011.

بدأ العزاوي الكتابة مفتخرًا بقدرته على الانعزال، الأمرُ الذي ينقلبُ إلى إيجابية كبيرة في ظروف كظروف الحصار، محاولاً تجنّب التفكير في الفرق بين الانعزال الإجباري والاختياري بدأ باستغلال الوقت الطويل في المنزل واستعاد هواياته القديمة كالرسم وكتابة الشعر ومشاهدة الأفلام وممارسة الرياضة. يحاولُ تشتيت ذهنه عن الموت والخراب الذي يحيط به وبعائلته، مع أنَّ موقع بيته ضمن منطقة الفيلات القريبة من مركز أمن الدولة جعلهم محميين إلى حدّ ما من قذائف المدفعية والطيران، إلّا أنَّ كل بيت في المنطقة أصبح مركزًا لإيواء أربع أو خمس عائلات معًا.

تؤرقه الأسئلة التي قد تخطر ببال ابنتيه بعد سنين فيبدأ بحثه عن إجابات مقنعة لما يحصل منذ الآن، من الغريب أن المحاصر قد يستبق الجواب لسؤال لم يُطرح عليه بعد، أفي الأمر أملٌ بالنجاة رغم كلّ شيء؟

تتفاوت لغته بين التقريرية والشعرية، هو الكائن الانعزالي اختياريًا، تصبح وحدته فجأة ميّزة كبيرة، فقلّة معارفه تعني قلّة معرفته بالشهداء. تخفيف الوجع في هذه الحالات هدفٌ يحاول بلوغه حتى وإن ادعّى أنَّ الشهداء مجرد أسماء لا وجوه لها. يغمض عينيه ويركض بين طوابق البيت الثلاثة محاولاً حماية نوم ابنته “زينة” التي تبلغ من العمر شهرين، زوجته مايا مع ابنتهما مدى ذات السنوات الخمس، وشبابيك وأبواب البيت تبدو وكأنَّها في حفلة تصفيق جماعية مع وقع كلّ قذيفة.

%d9%85%d9%88%d8%b2%d8%a7%d9%8a%d9%8a%d9%83-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b5%d8%a7%d8%b1

تتداخل أزمنة الرصاص أيضًا في نهار الناس وليلهم، تبدو الرصاصات سلسلة طويلة لا تنتهي من الإيقاعات المستمرة وكأنَّ الأمر يهوّن حصد أرواح الناس والأماكن بتحويله إلى أمر روتيني بلحن ثابت، بل حتى في رمضان تنسجم الضربات مع أوقات وجبات الطعام!

يشير الكاتب إلى كرهه الأخبار ويصفها بجلد ساذج للذات، يكيل للمعارضة حصتَّها من اللوم أيضًا، وتقلقه تناقضات الانشقاق عن النظام وعدم اقتناعه بمنح ثقته لمن كان جلّاده ذات يوم، ويطرح أسئلته حول طرق تنفيذ القانون بعد تغييرات شكل ونواة وهيكل الدولة تغييرًا جوهريًا لا رجوع عنه، ثم يستسلم لغواية الأسماء المستعارة فيكتب بحرّية أكبر مفترضًا أنَّه ليس لكتابته تبعات، إلّا أنَّه لم يستطع أن يكتب كلّ ما يرغب به ولا حتى في هذه المذكرات، ليس خوفًا من النظام فحسب بل خوفًا من نفسه ومن فضح عجزه وقلّة حيلته. الأسماء المستعارة أصغر من تحتوي كامل الصورة، والأمور لا تبدو كما هي عليه في حقيقة الأمر، كصورة بشّار الأسد التي يعلقّها الجنود في البيوت المنهوبة فيأتي أصحاب المكان بعدهم لينفجر اللغم المزروع داخلها قبل أن ينجحوا بنزعها عن الجدار. في الحصار تتعدد أشكال الأسماء المستعارة والأقنعة، ويصبح البشر جاهزين للانقضاض على بعضهم البعض بأسنانهم العارية.

يطرح الكاتب أمثلة قصصية كدونكيشوت وأقوال سعدالله ونوّس وأعمال كونديرا وتاريخ الهنود الحمر والدول الشيوعية، يسقطها على الواقع بغرابته وجنونه، يكتب على جهاز الحاسوب أحيانًا ثم يوّثق بعض الأيام بخط يده بسبب انقطاع الكهرباء، ويحافظ في كل الحالات على تدفق المشاعر نحو أناه الداخلية ويرفض الانزياح عن هدفه الأول في الكتابة ألا وهو تفكيك الحصار والتخفيف من هول كتلته.

يذكّر العزاوي نفسه أنَّه لا يرغب بالكتابة بحزن، إلّا أنَّ حزنه يطفح على الكلمات في الكثير من المشاهد. كيف له أن يكتب عن قطّته التي أتت لتموت قرب البيت تمامًا دون أن يحزن؟ وكيف له ألّا يحزن وهو يحزن لموت قطّة بينما الموت يجول في مدينته حاصدًا الحياة ومظاهرها واحدًا تلو الآخر!

تصبح المقارنات مشوّشة، وتتغير قيمة الأشياء أيضًا، ربطة الخبز شبه المتعفنة تصبح حدثًا جللاً، والمكيّفات القديمة ذات الهدير العالي تصبحُ مرغوبة لأنَّ صوتها أداة لحجب أصوات القصف، وتصبح عريشة العنب هدفًا يتسابق عليه الناس والعصافير في المدينة التي تعاني من ضيق وهميّ في الوقت، وضوء الليزر يلاحق الناس بتسلية واضحة من القنّاصة في إرعابهم وإمساك ناصية أرواحهم بنقطة حمراء صغيرة.

يحزنه تعامل ابنتيه مع القذائف بوصفها شيئًا روتينيًا لا يستدعي القلق، ينظرون لها كموجودات طبيعية، لا مجال للمقارنة بين الطبيعي وغير الطبيعي بالنسبة لطفل يكبر في ظلّ الحصار!

يعاني العزاوي من الكوابيس والمنامات طيلة فترة الحصار، يحلمُ بالنمل وقمم الجبال والرشاشات والمرضى الذين يموتون على أسرّة العمليات، وتصبح فترات الوحدة حقلاً للذكرى وتصفية الحسابات وإعادة بناء المشاهد نظرًا لتغيير القيمة المعنوية للأشياء والأحداث، فكونه طبيب عيون مثلاً هو أمر يختلف الإحساس به عن فترة ما قبل الثورة وفترة ما بعدها. تجول بباله العيون التي لم يستطع إنقاذها، فحاول على الأقل إنقاذ البنية التشريحية لها، فصار يرى تجاويف العيون في الجماجم مجرّد شكليات لا قدرة لها على تنفيذ وظيفة الإبصار، ويغوص العزاوي هنا في سرد ذاتي لا يخلو من القلق حول إمكانية إنقاذ “شكل مدينته” مقابل إنقاذ “معناها الحقيقي”.

يعتبر أن “النسيان فعل انتقامي” و”قتل مفرط النظافة”، ولكنّه يستمر في سرد تفاصيل الجوع والخراب والنهب وكأنَّه يصرّ على معاكسة النسيان ويرفض قتل هذه المرحلة الزمنية على الرغم من صعوبتها، بل ويمتدّ حديثه ليطال قصص شخصيات من المدينة، كأم قدور وأبو نعيم ومرهف ورامي وخليل وقيصر، لكلّ منهم قصتّه التي تركت أثرها في المدينة التي أصبحت شوارعها فارغة وبيوتها بجبصين مكسّر وأبواب مقتلعة.

ينزح الكاتب إلى مدينة الرّقة حيث يواجه حصارًا على مستوى مختلف، أطلق عليه اسم “حصار الناس للناس”، ومثّله ببساطة تصرّف طفل يقف ممسكًا بحبل أرجوحة سائلاً الأطفال بعده: “رقّاوي ولا ديراوي”؟ ثم يقرر إعطاء الأرجوحة أو عدم إعطائها بناءً على الإجابة.

بالكثير من التعب يسرد لنا الكاتب فلسفة النار والحرق وبداية الثورات العربية وامتداد وقعها إلى نفوس الناس وصدورهم المتورمة من الخراب والفقد والموت.

والجدير بالذكر أنَّ العزاوي هو مصمم لوحة الغلاف والتي تحمل صورة جسد أصفر يجلس على كتلة مشوّشة تختلط ألوان الرمادي والأخضر والأسود فيها، ولا نعلمُ إن كانت هذه اللوحة هي إحدى نتاجات الرسم الذي مارسه خلال أيام الحصار ولكنَّ التعب الواضح على الرأس المستند إلى المجهول ينبؤنا أنَّها قد تكون كذلك.

كذلك صدرت هذه المذكرات كأول إصدار ضمن سلسلة “شهادات سورية” الصادرة عن الرابطة السورية للمواطنة –بيت المواطن” كُتبت هذا المذكرات بين الفترة الزمنية 14تموز، 2012 إلى 3كانون الثاني،2013. ولم تُذكر أيّة تواريخ أخرى ضمن النص وذلك لأنَّه-كما أشار في المقدّمة- رغب بأن تكون الكتابة مجرّد توثيق حسّي لا تاريخي. فإن كان التاريخ يكتبه المنتصرون كما يقول المثل، فإن التفاصيل الحقيقية يكتبها الشعب دون شكّ.

سيدة ألمانية تضرب بسيارتها 14 سيارة متوقفة في ساحة

باء