in

“من مفكرتي” لهيرمان هيسّه -1-

العمل للفنان جبر علوان

ترجمة أسامة منزلجي – ليلة أمس راودتني أحلامٌ كثيرة لم أتذكّر أياً منها بوضوح. كل ما أنا متيقّن منه هو أنَّ سياق تلك الأحلام والإحساس بها جرى في اتجاهَين: بعضها يتعلّق حصراً بكل أنواع الحزن الذي حلَّ بي – والبعض الآخر بالاشتياق والكفاح للتغلُّب على هذا الحزن عبر الفهم التامّ، وعبر القداسة.

وهكذا بين المعاناة والتأمُّل، بين اليأس وأعمق الجهود، تلاطمت أفكاري ورغباتي، وأوهامي طوال ساعات على جدرانٍ ضيّقة، إلى درجة الإرهاق المُعذِّب، وأحياناً كانت تتحول إلى مشاعر جسديّة شبه مُبهمة: حالات مُحدَّدة بدقّة، ومميَّزة بوضوح تام من الحزن، والبؤس وضيق القلب، مُتمثّلةً بجلاء على هيئة صور وأنغام متناسقة، وفي الوقت نفسه من منطقة أخرى من الروح برزت دوافع تتّصف بحيويّة روحيّة أعظم. إنها تحذيرات بوجوب التحلّي بالصبر، وبالكفاح وبالتزام الطريق الذي لا نهاية له. كان كل نشيج يُقابله خطوة شجاعة إلى الأمام وإحساس بالعذاب على مستوى تُجيبه على مستوى آخر نصيحة، حافز، إدراكٌ للذات. إن كان هناك أي معنى في التركيز على مثل تلك التجارب، التي تميل بانتباه فوق الأعماق والأهوية السحيقة التي يحملها المرء داخله، فهذا المعنى لا يتكشّف إلا إذا حاولنا أنْ نتبع دوافع أرواحنا بأشدّ إخلاص ودقّة ممكنين – إلى أبعد وأعمق مما يمكن للكلمات أنْ تبلغه. إنَّ كل مَنْ يحاول يُسجّل هذا يفعل ذلك بالشعور نفسه الذي ينتابه لدى محاولته مناقشة شؤون شخصيّة صعبة ودقيقة بلغة أجنبيّة لا يعرف منها إلا أقلّ القليل.

وهكذا كانت حالة تجربتي وامتدادها على الشكل التالي: من ناحية كانت تحمُّل حزن هائل، ومن ناحية أخرى كفاحاً واعياً للسيطرة على هذا الحزن، من أجل تحقيق تناغمٍ كامل مع القدر. كان ذلك تقريباً الحُكم الذي أصدره وعيي، أو بالأحرى الصوت الأول المسموع داخل وعيي. هناك صوت آخر، أضعف، لكنه أعمق ورنّان أكثر، يُعبِّر عن الأمر بشكل مختلف. هذا الصوت (الذي سمعته بوضوح كالصوت الأول لكنه أبعد داخل نومي وحلمي) لم يصف المعاناة بأنها خاطئة وصراعي العقلي الحيويّ من أجل تحقيق الكمان بأنه صائب، بل وزّع الخطأ والصواب بالتساوي على كليهما. هذا الصوت الثاني عبّرَ عن عذوبة المعاناة، وضرورتها، ولم يكن مُهتماً بالسيطرة عليها أو بإزالتها بل فقط بتعميقها وإنارتها.

الصوت الأول، قال شيئاً بالكاد يبدو كالكلمات، يشبه ما يلي: “إنَّ المعاناة هي معاناة، ولا جدال حول هذا. إنها مؤلمة، وموجِعة، ولكن هناك قِوى يمكنها أنْ تتغلَّب عليها. إذن ابحث عن تلك القِوى، هذّبها، وفعّلها، واجعلها تُهدِّئ من قلقك! سوف تكون أحمق وضعيفاً إذا رغبتَ في مواصلة المعاناة إلى الأبد”.

لكنَّ الصوت الثاني قال شيئاً يشبه ما يلي: “إنَّ المعاناة تؤلم فقط لأنكَ تخافها. المعاناة تؤلم فقط لأنكَ تشتكي منها. وهي تسعى إليك فقط لأنك تهرب منها. لا ينبغي أنْ تهرب، لا ينبغي أنْ تشتكي، ولا ينبغي أنْ تخاف. يجب أنْ تحبّ. أنت نفسك تعرفُ هذا كله، تعرفُ جيداً في أعماقك أنَّ هناك فقط سِحراً واحداً، قوة واحدة، خلاصاً واحداً وسعادة واحدة هي المحبّة. حسنٌ إذاً، أحبّ معاناتك، لا تقاومها، لا تهرب منها. تذوّق مدى حلاوتها في جوهرها، استسلمْ لها، لا تواجهها بكراهية. إنَّ كراهيتك وحدها تؤلم، ولا شيء آخر. إنَّ الحزن ليس حزناً، والموت ليس موتاً إذا لم تجعلهما كذلك ! المعاناة هي موسيقى رائعة – إذا أصغيتَ إليها برهة. لكنك لا تُصغي ففي أُذنك دائماً نوعاً مختلفاً، خاصاً، عنيداً من الموسيقى والنغم لن تتخلّى عنه ولا ينسجم مع موسيقى المعاناة. أنصتْ إليّ ! أنصتْ إليّ، وتذكّر: إنَّ المعاناة لا شيء، المعاناة وهم. أنت اخترعتها بنفسك، وأنت الذي يُسبِّب الألم لنفسه!

وهكذا بالإضافة إلى المعاناة وإرادة الهروب، كان هناك أيضاً صراع مستمر وتوتّر بين الصوتَين؛ الأول الأقرب إلى الوعي، لديه الكثير ليقوله عن نفسه، إنه يواجه عالم الضمير المُعتِم بوضوحه الخاص. إلى جانبه تقف السلطات، موسى والأنبياء والأب والأم والمدرسة، وكانط وفيخته. والصوت الثاني بدا بعيداً، وكأنه يبرز من اللاوعي ومن المعاناة نفسها. إنه لا يخلق جزيرة آمنة وسط العماء، ولا يُلقي ضوءاً إلى الظلام. إنه هو نفسه مُظلماً، وهو نفسه سببٌ بدائيّ.

من المستحيل الآن وصف الطريقة التي تطور بها الصوتان وتجسّدا. في الواقع لقد انقسم كلٌ من الصوتين الأصليين،  وكل صوت ثانوي جديد انقسم من جديد ولكن ليس من أجل تشكيل فرقتين تقفان متقابلتين، كما لو أنهما على سبيل المثال الأكثر إشراقاً والأكثر قتامة، الأعلى والأكثر انخفاضاً، الذكر والأنثى، أو كائناً ما كان. كلا، بل كل صوت جديد يحتوي شيئاً من كلا الصوتين المُهيمنين، أصداء العماء وأصداء الإرادة الفعّالة، ليلاً ونهاراً، ذكراً وأنثى، في تركيبة جديدة وفريدة. وكل صوت كان له دائماً الشخصية المناقضة تماماً للصوت الذي هو طفله وذريته. والصوت الثانوي الجديد الذي يبرز فجأة من الصوت الأم العمائيّ يبدو دائماً أكثر رجولة ووضوحاً ومُفعماً أكثر بالمعنى، وأشدّ هدوءاً وتحديداً – والعكس بالعكس. ولكنْ كلاً منهما كان مزيجاً، وكلاً منهما انبثقَ من الاشتياق إلى الأصل الآخر.

هكذا نشأ تعدُّدٌ وتفرُّعٌ تجلّى لي فيه العالم برمّته مع ما فيه من ملايين الاحتمالات. وكل احتمال كان يتوازن مع نقيضه؛ كأنَّ العالم كله يجري في مساره في روحي الحالمة ليُصاحب الألم الأخرس المتواصل. كانت هناك قوة ودافع في تقدّمه، ولكن أيضاً الكثير من الاحتكاك والكبح والحدود الموجعة. إنَّ العالم يدور حول نفسه، يدور بجمال وشغف، لكنَّ المحور يئنّ ويُدخّن.

كما سبقَ أنْ قلت، لا أعرف المزيد عمّا حلمتُ به. لقد اختفتْ النغمات، لم يتبقَّ غير اللحن المُميَّز والأصوات مُسجّلة في ذاكرتي. كل ما أعرف هو أنني تحمّلتُ الكثير من الألم، ومع كل ألم جديد كان مفهوم الحرية والخلاص الشجاع يُضاء من جديد. إذن هنا كانت عمليّة أبديّة، جولة من الدافع والقبول، من الخلق والتحمُّل، من الفعل والمعاناة  لا تنتهي.

شاهدتُ هذا وابتأست. كان كل شيء يتّسم بنكهة الحزن أكثر من الفرح، عندما اتّخذتْ أحوال الحلم أشكال المشاعر المحسوسة، كانت مؤلمة؛ أُصبتُ بالصداع، وانتابني الدوار والإغماء.

كانت الأحداث التي وقعتْ لي تتألف من طبقات متعددة، وعلى كل تجربة جديدة أو حزن كان صوتٌ جديد يُعطي جواباً، وكل هجوم تتلوه نصيحة داخليّة. وبرزت أمثلة، ميَّزتُ بينها ستاريتس زوسيما من رواية ” الإخوة كارامازوف ” يظهر كمِثال يُحتذى ومعلِّم. لكنَّ ذلك الصوت الأبويّ البدائي، الأبدي الذي يتغيّر شكله باستمرار، انشقّ في كل مرة، أو بالأحرى لم ينشقّ بل منحني إحساساً كأنَّ محبوبة تُشيح ببصرها عني وتهزّ رأسها في صمت.

وكأنَّ ذلك الصوت يقول “لا تقبل أي قُدوة! لا وجود للقدوات، إنها أشياء تخترعها ببساطة من أجل نفسك للتظاهُر، ومُحاكاة القدوات هراء، والعمل الصائب ينشأ من تلقاء ذاته. فقط عانِ، يا بُنيّ.. فقط عانِ واشرب الكأس حتى القطرة الأخيرة! وكلما اجتهدتَ في المحاولة لتجنّبه يُصبح مذاقه أشدّ مرارة. إنَّ الجبان يجرع قَدَرَه وكأنه سُمّ أو دواء، أما أنت فعليك أنْ تشربه كما تشرب النبيذ والنار. عندئذٍ سوف يكون مذاقه حلواً”.

لكنَّ مذاقه كان مُرّاً وطوال الليل كان دولاب العالم يدور، يئنّ ويُدخّن حول محوره. من ناحية كان طبيعة عمياء، ومن ناحية أخرى كان الروح المُشاهِدة – لكنَّ الروح المُشاهِدة ظلّت تتغيَّر لتُصبح أشياء عمياء، وميّتة وعقيمة: لتُصبح أخلاقاً، وفلسفة، وصيَغاً؛ الطبيعة العمياء ظلّت دائماً تفتح إحدى عينيها على هذا الشيء وذاك، عين رائعة، دامعة، حييّة وبرّاقة. لا شيء يبقى مُخلصاً لاسمه. لا شيء يبقى مخلصاً لجوهره . كل الأشياء كانت ” فقط ” أسماء، كل شيء كان ” فقط ” جوهراً، وخلف ذلك كله، كان حَرَم الحياة ولغز النداء الباطني يتراجع أكثر فأكثر إلى مرايا أعماق جديدة أبعد ومُخيفة أكثر. وهكذا يستمر عالمي في الدوران وإرسال الدخان، ما دام المحور صامداً.

“ولد أسامة منزلجي في اللاذقية عام 1948 ودرس الأدب الانكليزي في جامعة دمشق. مترجم قدّم الكثير بترجماته المميزة إلى المكتبة العربية، يعتبر من أبرز المترجمين عن الإنكليزية. عُرف بترجماته لأغلب روايات هنري ميللر ورواية كازانتراكس “الإغواء الأخير للمسيح” وغيرها، من أعمال جان جينة ونورمان ميللر وهرمان هسه وتينسي وليامز وجيمس جويس وتيري ايغلتون والكثير غيرهم.”

 

اقرأ أيضاً

“من مفكرتي” لهيرمان هيسّه -2-

الهويَّة

شرعيّاتٌ في ميزانِ الحُلْم

  لا الوقت و لا الشجر و لا المجازات

Die Syrer*innen in Deutschland und die Frage der Zukunft

أكثر من 40 مليون شخص يعانون من أشكال العبودية الحديثة