in

رجل في غيبوبة

حسام العاينة

تتوارى خلف الأفق البعيد كسحابة صيف هاربة، وتحاول أن تنغلق وتتقوقع وحيدًا على قهرك وأحزانك، وأفراح عمرك! بل ذرات الفرح التي مرّت على أيامك الماضية، والتي أطفأتها الأشجان والهموم والمعاناة بلا رحمة! هناك في ذلك المكان الأثير، البعيد عن الضوضاء والكذب، والمٌجاملات المفروضة عليك والقلوب العمياء! تتنفس الصعداء، فأنت كاتب منذ الأزل، والكاتب سلطان وباستطاعته الرحيل إلى أي مكان وزمان، هنا لا أحد يشعر بك، ولا يرى دموعك التي تهمي على وجهك المتغضن التعس!

لا أحد يحس بالدم الذي ينزف من ضلوع قلبك المٌهترئة ألمًا على رجفة أصابعك وإحباطك كلما حاولت الكتابة! تتسرب الثواني والدقائق والساعات من بين أصابعك المعروقة، تباً للقلم والمداد الذي لم ولن يٌنصفك، مهما ركضت حروفك على أوراقك المتبعثرة، ويخطر في ذهنك قول لا يخلو من حكمة: “إننا نصلي في ضيقنا وعٌسرنا، لكن حبذا لو صلّينا في فرحنا ووفرة خيراتنا”

لا شيء يعوقك الآن عن العودة إلى مسرحية الحياة لتٌصلّي وتعود إلى واقعك، والدائرة الفارغة التي طالما تخبطت فيها دون جدوى، تمشي في الأزقة والطرقات، مواء القطط تؤذي مسامعك وهي تعبث في القمامة، تشعر بحالة ملحة إلى الإقياء، وتتابع السير نحو الشوارع الكبيرة لعل العمارات الشاهقة والفيلات الأنيقة، تٌعيد إلى روحك المٌعذبة شيئًا من التناغم والتناسق، والثقة بأنك صاحب قلم لا يخاف لومة لائم، أشجار الياسمين تنسدل بطمأنينة على أسوار بعض المنازل، عندما كنت طفلاً كنت مٌولعًا بتلك الأزهار، مشغوفًا بجمعها واستنشاق رائحتها، أما الآن فأنت تنظر إليها عن بٌعد، ولا تٌحرك ساكنًا، وكأنك من كوكب آخر!

تمضي بك خطواتك دون شعور لتقف أمام ذلك المشفى الخيالي الخاص، فتجد امرأة جريحة تبكي بحرقة، تٌمسك بكلتا يديها بعجوز مريض كي يستطيع النهوض من مكانه ترنو إليها بقهر وتدمع عيناك، تشعر بالراحة فالإنسانية مازالت تتمكن في بعض حواسك! من المؤكد أنهم طردوها لأنها لا تملك المال الكافي لجشعهم وقسوة قلوبهم! فجأة تلتقي صديقًا قديمًا، تركض إليه بلهفة لتحكي له عن معاناتك وآلامك! عن حالتك النفسية والصحية والمادية، ولكنه يمد يده إليك بفتور، ونظرات باردة كالموت ثم يركن في سيارته الفارهة وكأنه يهرب من جرثومة ما، لقد رحل صديق عمرك الذي تقاسمت معه الأحلام والخبز والماء، وقطع عنك جسور العبور إلى منصبه  وكرسيه ومركزه!

في النهاية تأخذك خطواتك وتتفيأ تحت ظل شجرة هرمة، تأخذ نفسًا عميقًا وتعرف وتتأكد أن هناك وفي مكان بعيد عن المدينة، بيتًا تملؤه الرطوبة والعفونة ولكنه يحتوي بين جدرانه قطعًا من كبدك ينتظرون بلهفة ما ستحمل يداك لهم من طعام وبعض الأرغفة! تضحك من قلبك، والدموع تملأ أخاديد وجهك التي رسمها الزمن والفقر بتقنية بارعة ويعلو صوتك وتخاطبهم: سوف أعود إليكم يا صغاري، سأعود إلى أوراقي البيضاء الفارغة، إلى طاولتي الخشبية! وسأدّون وأكتب وأبحث عن الحقيقة والعدالة والجمال المفقود في كل شيء حتى الزهور! سأعود لأكمل دوري في هذه المسرحية، متى يأخذني الموت ويحول بيني وبين هذا الدور التافه!؟.

أنا الذي رأى

خمس وخمسون