in

دمشق – اسطنبول، اسطنبول – دمشق

اجمل احياء اسطنبول حي امينونو

جلنار حاجو | رسامة وكاتبة سورية

كانت قد مرت سنة ونصف على مغادرتي دمشق إلى الأردن، ظننتها زيارة سريعة، لشهر أو شهرين في مكان آمن، لا بد أن العالم لن يبقى صامتًا عن جرائم الأسد المروعة، وأن سياسيي العالم الأول سيتيقظون بعد ليلة طويلة ذرفوا فيها دموعًا كثيرة على ضحايا مجازر الأسلحة الكيماوية، وأن صور المعتقلين المروّعة نبهتهم أن ظلمًا شديًدا حلّ ببلد صغير.

لا بد من التحرك، قال حكّام العالم بصوت واحد وحازم بعد اجتماع مطول لإنقاذ ما تبقى من أرواح إلا أن شهورًا أخرى مرّت، وجرائم مروعة أكثر وقعت، كان الهواء النقي ينقص يوميًا في عمّان، كنت أتنفسه أحيانًا خلال لحظات أقضيها مع ابنتيّ وزوجي، أو عندما أرسم أو أكتب، عادة أخرى ساعدتني على التنفس، فقد كنت أموّن لحظات الفرح كما أمون البرغل والزيتون وأغذي بها لحظات الكمد وغالبًا ما كنت أنجح بنسبة كبيرة، ولكن ما الذي يمكن أن يمحي صور الدمار والأشلاء ويخفي أصوات نشيج الأطفال واستغاثات الجرحى؟، لم نبرمج كبشر على رؤية المذابح على الهواء مباشرة لذا نحتاج إلى أطنان من الجمال والفرح والأوكسجين النقي لنبقى أحياء فعلاً.

حصل ذلك معي فعلاً في صيف 2013 عندما تدفق إلى قلبي نهر غزير من موجات قوية من الجمال والهواء النقي لحظة وضعت قدمي في ساحة سلطان أحمد في قلب مدينة اسطنبول، كانت زيارتي الأولى لهذه المدينة الساحرة، شيء ما رد إلي الروح وأعادني إلى دمشق، ربما الأزقة المشابهة لأزقتها، أو ربما هواؤها قد حمل عبقًا يشبه رائحة النارنج التي تحوم في هواء شوارع دمشق القديمة وبثّ نفحات طائرة دخلت بسرعة الضوء إلى قلبي جعلته يهمس إلى عقلي: تعالي وعيشي هنا إلى أن تعودي، واتخذنا قرارنا الجميل.

خلال عشرين يومًا حملنا أمتعتنا وتوجهنا بسرعة من عمان إلى اسطنبول وكأننا ركبنا بساط الريح طار بنا للعيش ودون تفكير في وسط المدينة القديمة.

بعد أسابيع صعبة كان علينا فيها أن نؤسس بيتًا جميلاً ثالثًا ونضع فيه أغراضًا جديدة أخرى نحرص أن تحمل الجمال الذي نركض وراءه وعليها أن تكون مستعدة لتلقي الذكريات الجديدة، جهز البيت، غرف البنات، غرفة الاستقبال، مرسمي ومكتبي، كل شيء كان يبدو كاملاً، لكن برودة ما سرت في أنحاء جسدي لم أعرف مصدرها تمامًا، كان علي البحث عن المصدر ولم أجده إلى أن سمعت صوت أذان مسجد محرمة سلطان الذي أراه من شرفة المنزل فكلمات مؤذن الجامع ردت إلى جسدي القليل من الحرارة وأدركت أنني مشتاقة لأسمع لغتي العربية، اللغة جزء من الروح وربما هي صوت الروح، أفتقدها حقًا، كأن الموسيقى وبأيام قليلة قد اختفت من الوجود. أسرعت أقرأ وأكتب كي لا أفقد نفسي وصرت متمسكة بها أكثر كما يتمسك الطفل الصغير بثوب أمه.

أعرف، علي أن أتعلم اللغة التركية أعرف أعرف قلت لنفسي، خرجت إلى الشارع وبدأت ألتقط الحروف الناضجة التي تتساقط من أفواه الناس في الشارع وابتسامتي كانت تكبر كلما التقطت كلمةً عربيةً من الكلمات العربية الكثيرة التي تحتضتها اللغة التركية، مازال الشبه كبيرًا! دائمًا كان قلبي يطمئن بل إنه همس لي: هل نسيتِ صحن الفاصولياء الذي أعطتك إياه جارتك التركية؟ تذكرت تذكرت جيدًا أنني عندما سألتها عن اسم الطبق وأجابتني فاصولية طبق تركي أصيل ضحكنا سوية عندما علمتْ أن للفاصولياء نفس الاسم في اللغة العربية بل ونفس طريقة الطهو، تذكرت أيضًا أنني في تلك اللحظة تأكدت من أنني سأعود إلى دمشق، ربما رائحة الفاصولياء الشهية هي السبب، ربما ضحكة عيون جارتي المسنّة التي تشبه خالتي وكلماتها المحبة -في أمان الله– كانت هي السبب أو ربما رنين ضحكاتنا المتشابهة التي تحولت في تلك اللحظات إلى فراشات بيضاء بشّارات بالرجوع المؤكد.

أردوغان ينسحب من مراسم تأبين محمد علي ويعود غاضبًا إلى تركيا

آخر القراصنة