in

جرّ الواقع إلى الإبداع، رواية “سبايا سنجار” لسليم بركات

محمد عبد الوهاب الحسيني*

“سبايا سنجار” هي آخر ما صدر لسليم بركات صاحب “فقهاء الظلام”، “أرواح هندسية”، وثلاثية “الفلكيون في ثلاثاء الموت” وغيرها الكثير. ولطالما تميّز أدبه بخلق عوالم لامألوفة وغرائبية بنكهة واقعية سحرية، حيث يتداخل الواقعي بالخيالي والأسطوري، وفي مختبره القصصي ينسج حكاياته وشخوصها الموجوعين من أزمنة وأمكنة لاتنصف أبداً، ومع ذلك هم يولدون ولا يموتون إلا بعد أن يرووا حكاياهم.

منْ هن سبايا سنجار

الفتيات الإيزيديات اللواتي وجدن أنفسهن سبايا بيد جند دولة الخلافة، حين اجتاح هؤلاء مناطقهم في جبل سنجار في العراق، يستحضرهم بركات إلى حيث يقيم وبطل روايته “سارات” في السويد. هنّ خمس فتيات إيزيديات بتن لاجئات بعد تجارب مؤلمة، يطلبن من الرسام “سارات” رسمهن في لوحته التي يريد تنفيذها وتسميتها: “سبايا سنجار”. كل واحدة منهن تبوح بما جرى معها من ظلم واغتصاب بعد شرائهن كجوارٍ لخمسة من إرهابيي داعش، الذين يستحضرهم الكاتب أيضاً إلى السويد. من خلال الحوارات بينهن وبين “سارات” يقف القارئ على الطبيعة النفسية المريضة لهؤلاء الإرهابيين وما يعانون من مركبات النقص والمثلية والفصام، كل ذلك مغلّفٌ بالجهل وبقلوب مكتظة بالبغض والكراهية! الجميع أرادوا اقتحام لوحته التي لم يرسمها، غير أن الكاتب جعل روايته تسرد تفاصيل لوحات فنية لتشكيليين عظام، تبوح بالوجع والهلع كأنهم رسموها للتو عن مأساة سنجار الحديثة

البطل هو التشكيل المؤلم

البطولة في هذه الرواية هي للتشكيل. فما يريد الرسام الكردي “سارات” رسمه عن سبايا سنجار المتألمات، هو ذاكرة تستدعي الوجع الذي تعرضن له دونما ذرة من الشفقة. فيسرد الراوي وصفاً للوحات تشكيلية لفنانين مثل شاغال وغويا وسواهما. فيتقمص الرسام مضامين تلك اللوحات العالمية، حتى أنها تُطبع على جلده كل صباح.

بيد أنه لم يرسم لوحة السبايا، كأن تلك الأعمال الفنية تنبأت بأوجاعهن منذ زمن بعيد، فالبطولة للتشكيل الذي يضعنا الراوي في أجوائه بحرفية عالية، حيث يدخل “سارات” كل ليلة في محاورة مع هذه الأعمال العالمية، الأمر الذي ينعش السرد ويستحضر الأساطير التي تزخر بها هذه الرسوم، وقد أتقن الكاتب توظيفها وعرضها للقارئ.

رواية ككنز المعارف

الرواية أشبه بكتابٍ ثقافي يزخر بالمعرفة، يوغل كاتبها في جذور أي موضوع يتبادر إلى ذهنه، ليشبعه فحصاً وتمحيصاً، فيقدّم حبكة درامية متقنة من خلال تداعي الأفكار. الراوي مذهل في استنطاق تاريخ أي حدث أو معتقد أو فن تشكيلي، يسهب في الوقوف على معتقدات الإيزيديين في العراق وسوريا، وشعائرهم وطقوسهم، كأنه باحث أنثروبولوجي، هذا ناهيك عن سرده التفصيلي الذي يقوم على الوصف الخارجي لشخصياته الرئيسية والثانوية.

كما أنها رواية زمننا الراهن، زمن الإرهاب المريض في غرائزه وروحه المشروخة بالعقد النفسية المتخمة بالكراهية. والكاتب يعاين عن قرب حال وطنه السوري ومأساته الراهنة. هي روايةٌ لاتخلو من التحليلات السياسية التي تدين المعنيين بالأوضاع المأساوية في سوريا مع إسهابٍ عن السياسة الإيرانية المدمّرة في الشرق الأوسط بأسلوب أدبي جميل، كما تستدعي من صفحات التاريخ الصراع العثماني التركي مع الصفوي الإيراني، الصراع الذي يشبه جمرة متقدة تحت الرماد قد تشتعل في أية لحظة، بالإضافة إلى الصراع بين القوى العظمى على مناطق النفوذ.

الدلالات الرمزية

الإرهابيون الخمسة يعملون كمسوّحين للكلاب التي لا يملك مالكوها السويديون وقتاً للاعتناء بها، وفي النهاية نجد أن أحد كلابهم يصبح مسعوراً ويجري خلف “سارات” الرسام حتى بيته، ويحطّم زجاج نوافذه ويعبث بعلب ألوانه ثم يلوذ بالفرار، ملقياً نفسه في مياه البحيرة التي تقع قرب بيته. نحن نعرف أن الكلب عادة هو رمز للوفاء والألفة، إلا أن هذا الكلب تماهى مع شخصيات مسوّحيه من الإرهابيين، وبات يخصّ هذه الفئة المسعورة ويرمز إليها، وبتحطيم الكلب لصفائح الألوان بدا وكأنه يرسم لوحةً تجريدية تعبّر رمزياً عن زمن من الغموض والإبهام!

الرؤى والخيال

يجري سليم بركات تداخلاً بين التشكيل والأدب من جسر الخيال الرحب الذي يتميّز به، ونصه الروائي مفعم بالحياة والرؤى والوجع الذي يستعيده من واقعه الراهن، حيث الذاكرة المقرّبة لسبايا سنجار اللواتي قتلن، ولكنهن عشن ليروين الحكاية الأليمة تشكيلاً وأدباً. ورغم الواقعية المباشرة للأحداث في سوريا والعراق في عملية السرد، إلا أن بعض التقنيات الفنية الرمزية تضفي على الرواية فانتازيا تخلق في النص رمزيةً دالّة. فمثلاً في نهاية الرواية نجد أن “سارات” رسم لسبايا سنجار رسماً بقلم الرصاص، لسفينةٍ وكأنها وسيلة نقل ستعيد السبايا إلى وطنهم في العراق ولو بعد حين، كما يتراءى للفتيات السبيات شبح شيخهن المقدّس، عادي بن مسافر، بجناحين تحتهما زورق، كأنهن موعودات بالعودة إلى موطنهم بزورق!

جدلية الشكل والمضمون

لأدب سليم بركات دوماً تعبيرات جمالية عن معاناة شخوصه وذاته الإبداعية، ويجسّد الأحاسيس بلغة تتصف بصفات فنية إيحائية في مفرداتها وتراكيبها ومضامينها المعنوية، وفي أشكالها البنائية من ناحية الشكل والمضمون في آن معاً. كما يمكننا القول إن أدب بركات هو أدب مابعد الحداثة، حيث يتخطّى بحرية ماهو واقعي إلى ما هو ميثولوجي، والكاتب يجيد توليفة الواقعي والمتخيل، وفي روايته هذه يفسح المجال لتوظيف الرمز دون إلحاق الأذى بواقعية أحداثها الراهنة.

أخيراً يمكننا القول إن رواد مابعد الحداثة قد وضعوا أهميةً فائقة على اللغة، فهي لاتعبر عن الواقع فقط بل تخلقه، وسليم بركات بلغته العربية الباذخة، يبتكر ويبدع أفكاره المصكوكة في القالب الروائي متخطياً حدود المكان إلى الشرق الذي يستحضره وينتمي إليه روحاً وفناً وأدباً.

*محمد عبد الوهاب الحسيني، كاتب وصحفي سوري مقيم في ألمانيا

اقرأ أيضاً:

مرايا الجنرال، رواية عن اللوثة القابعة في الأعماق البشرية

شظايا فيروز رواية جديدة للروائي العراقي نوزت شمدين

صاحب خان الحرير والثريا، الروائي السوري نهاد سيريس، عن التجربة والذاكرة ما بين حلب وألمانيا

مقتل 17 طالباً في إطلاق نار داخل مدرسة بولاية فلوريدا

دراسة عن أسباب فجوات الرواتب بين النساء والرجال في ألمانيا