in

الهويات القاتلة وتشريع المجازر

خاص أبواب

يتحدّث أمين معلوف في كتابه المميّز: الهويات القاتلة، عن ذلك المفهوم الضيق للهوية، الذي يختصرها في انتماء واحد، سواء أكان طائفياً أو دينياً أو عشائرياً أو إثنياً قومياً، فيحصر المنتمين لهذه الهوية في موقف متحيّز متعصّب ومتشدّد، وغالباً ما يحوّلهم إلى قتلة وأتباع قتلة، خصوصاً حين يتعرّض ذلك الانتماء إلى خطر (خارجي) ما، فتتشوّه رؤيتهم إلى العالم وتنحرف.

فيتصنّف الناس الذين ينتمون إلى (جماعتنا) ليصبحوا (منّا)، ويجمعنا مصير مشترك ونهاية مشتركة في غالب الأحيان. أما غير المنتمين إلى (جماعتنا) فهم المتواجدون في الطرف الآخر: الأعداء، أولئك الذين لا نسمع شكواهم وعذاباتهم ولا نرى الظلم الذي يلحق بهم، رغم أنه قد يكون على مرمى نظرنا.

فما يهمّ هو موقف (الجماعة) الذي يكون في غالب الأحيان موقف أكثر أعضائها تعنّتاً وغوغائية وشراسة! وهنا تكمن خطورة هذه الانتماءات الضيقة، فحين يشعر أصحابها بأن “الآخرين” يشكّلون خطراً على أثنيتهم أو ديانتهم أو قوميتهم أو عشيرتهم، على انتمائهم باختصار أياً كان هذا الانتماء، فكل ما بإمكانهم فعله لتبديد هذا الخطر سيتراءى لهم مشروعاً، حتى لو اقترفوا أبشع المجازر، فهم على يقين بأنهم يفعلون ما هو ضروري لحماية أهلهم. وبما أن كل من يدورون في فلكهم من المنتمين لذات (الجماعة) ويبادلونهم ذات الأحاسيس، فلا يشعر القتلة في معظم الأحيان بتأنيب الضمير، بل العكس فهم أبطال يسعون إلى حماية أهلهم وأطفالهم وهويتهم. أما حين يخرج من ضمن (الجماعة) أناس “فاترون” أو “مشكّكون” بصحة ما يفعله أولئك المدافعون عن الهوية أو الانتماء، فممارسة الإرهاب ضدهم ونعتهم بالخونة والمرتدين هو أقل ما يمكن أن يمارس بحقهم.

الشعور الذي يتوالد داخل الشخص الذي يتحرك من أجل جماعته المغلقة، حيث تصاحبه الدعوات والصلوات، هو شعور الدفاع المشروع عن النفس، وهي السمة المشتركة لكل الذين ارتكبوا أبشع الجرائم في كل أرجاء العالم، من رواندا إلى يوغوسلافيا السابقة مروراً بالكثير من الجرائم العرقية والدينية الطائفية وغيرها.

إذاً فمفهوم الهوية الضيّق، بحسب معلوف، مفهوم مضلّل، يوحي بادئ الأمر بحق مشروع، ثم يصبح مع الزمن أداة قتل. هذا الانزلاق من حالة إلى أخرى يبدو خفياً وطبيعياً وننخدع به أحياناً، وإذ بالضحية تتحوّل فجأة أمامنا إلى جلاد، وإذا بانتماءاتنا تتحوّل فجأة إلى صراع وجود وحروب.

السؤال الرئيسي فيما طرحه معلوف: إلى أي حدّ يستطيع الفرد التحكم في تكوين هويته؟! هل بإمكاننا الخروج من أسر انتماءاتنا الضيقة وهوياتنا القاتلة، باتجاه انتماءات متعددة منفتحة وملونة تشبه انتماءنا للعالم الواسع، تقبل الآخر ولا تؤطّرنا في جماعات مغلقة لم يكن لنا الخيار في التواجد أساساً فيها؟

في بداية هذا الكتاب الصادر عن دار الفارابي العام 1998 يتحدث كاتبه عن سؤال لطالما يسأله الناس له، هو اللبناني الأصل الذي هاجر إلى فرنسا بعد نشوب الحرب الأهلية في بلده. السؤال هو: هل تشعر بأنك فرنسي أم لبناني؟ السؤال الذي يواجهه كل قادم إلى أرض جديدة. كان معلوف يجيب: هذا وذاك. جواب يختصر الكثير من الفكرة الرئيسية التي أراد الكتاب القيّم قولها.

اقرأ أيضاً:

الثقافة والهويات الثقافية وتنازع الإرادات

سوف أروي – عن الحرب إقليم الموتى

عندما تفرطُ الحرب رُمّانَها

أسئلة “الوطن” التي لا تنتهي

مارادونا: على نيمار أن يغير الرقاقة في رأسه قليلاً…

انكلترا: وسقطت ورقة التوت أمام كولومبيا