in

الميلاد من خلف النافذة

العمل للفنان وسام الجزائري

فرح يوسف

إنه الموعد الرسمي للبهجة حسب التقويم العالمي، إنه موعد التزيّن والتأنق، التسوق والهدايا، التقاط الصور مع السرو المكسو المجرّد من هيبته بالكرات الملونة، والكثير الكثير من الأمنيات.

لكننا خارج التقويم العالمي، أنت سوري لاجئ لا تخضع لتقويم منفاك كما تخضع لقوانينه، أنت مضبوط دائمًا على عقارب الألم.

صباحًا ترتدي ملابسك، كنزة سوداء، جينز أسود، حذاء أسود، سترة سوداء، وشاح أبيض، لتكسر حدادك، لا تريد لحدادك أن يفسد المشهد العام، سترتدي ابتسامتك أيضًا، وتهنئ كل من يمرّ بك، وتتمنى له عيدًا سعيدًا، وستشكره أيضًا بحرارة على تعاطفه مع قضيتك.

تمشي في الشوارع ليلاً ويصعب عليك، حتى في أعنف فترات التقشف الضوئي، أن تميز الليل من النهار، تُحاصرك البهجة، ولا شيء في ذهنك سوى الكليشيهات التي تتعلق بيوم الميلاد في بلادك، بلاد المئة ألف محاصر بالعهر والقهر.

تتذكّر أعمال “وسام الجزائري” البديعة حدّ الوجع، سانتا كلوز المحمل بالعجز، شجرة الميلاد بكل أشكال رمزيتها، وصرخته حين صارت الجرنيكا في حلب، ولا مفرّ من البهجة المحيطة بك كقبو.

ما قصّة الأشجار على كلّ حال؟ تعود إلى مسكنك، تبحث في كل المراجع، المعتمدة وغير المعتمدة، عن أصل شجرة الميلاد، لا شيء يُقنعك.

رأفةً بخوفك الشديد من المساحات المغلقة، والغرف الفقيرة بالشبابيك، والستائر “الملكية” متعددة الطبقات، يأتي مسكنك مفتوحًا، عاريًا إلا من ستارة شفافة كئيبة تودّ لو تنزعها ولا تفعل، بالكاد ترى الإسمنت في الغرفة التي تجلس فيها، متأملاً النوافذ المحيطة بك، تبرق وتنطفي، بإيقاع منتظم كريه، نسيت أن أذكر كرهك للنظام والانتظام وكل ما له إيقاع رتيب.

حسنًا لا يمكنك أن تُنكر أنّ هذا المنظر مُبهج، إنه كل شيء تذكره عن الميلاد في طفولتك، يوم كنت ساذجًا، ولا تعرف بعد تعريفًا واضحًا للطائفية، أو القمع، حتى أنك كنت تفضل غزل البنات على الحرية، وتسرق إصبع أحمر شفاه “إيف سان لوران” من أمك لترسم للمعلمة الأنف الأحمر الذي رسمته لك، ولكل أصدقائك أيضًا، لم تكن تعرف يومها أنّ كتيبة المهرجين هذه ستكبر في قلبك وتُضيف “فوبيا المهرجين” إلى لائحة فوبياتك.

الشجر..

إنك تسكن وسط غابة، حرفيًا، هناك بضعة أبنية اغتصبت غابة، أنت تسكن في الطابق الأول من إحداها، تجلس أمام النافذة الكبيرة، الكبيرة كبر الحائط، إنها كبيرة حقًا، خصوصًا حين تكون مضطرًا لدعكها بالجرائد حتى تلمع، لكن هذا ليس مهمًا الآن، بيدك فنجان من الكاكاو الساخن، إنك تكره الكاكاو، ولن تشربه، لكنك صنعته لسبب ما، ولم تقم اعتبارًا للاستهلاك العادل، وحملته ووقفت أمام النافذة “صافنًا”، مصطنعًا الهدوء.

على الطرف الآخر من النافذة هناك غابة لعينة، عشرات الأشجار الممتدة امتداد قِصَرِ نظرك، تسعل الأوراق ليل نهار، والبستاني يكنسها كل صباح، أيدرك أنه “سيزيف” وأن الصخور تأتي بكل الأحجام والألوان؟ لا أعتقد أنه يدرك.

إن هذا النص مشتت ككل النصوص التي كتبتها في الشهرين الأخيرين، وهذا ليس مهمًا على أية حال. قلت مسبقًا أنني أكره الانتظام، شبعنا نصوصًا روتينية.

هناك هذه الغابة، بطيورها وسناجبها، وفراشاتها الغبية، وسيل أوراقها، وقطة الجيران السوداء السمينة التي ترفض مصادقتك، وهناك الأبنية بحبال الضوء، وبدمى تتدلى من النوافذ والشرفات، كلها ترتدي زي سانتا كلوز، إنها لا تُعجبني، دمية وحيدة لسانتا أحببتها، تذهب كل يوم إلى السوبر ماركت، تتفرج عليها، كنت ستشتريها، إنها بـ80 يورو، لم تشترها.

هناك الأطفال القابضون بشدّة على علب شوكولا كيندر بطول متر، بطولهم تقريبًا، كالقابض على كل بهجة العالم بين ذراعيه، أحسست هذا الإحساس تجاه علبة صغيرة من الكيندر مرة، كان ذلك منذ زمن بعيد قبل أن يكون الذي أهداني إياها “من عندن” وأصير أنا من “عنا”.

ما حاجة أي أحد لعلبة كيندر طولها متر كامل على أية حال؟

على الشرفة المهجورة لمسكنك المتروك منذ سبعة أعوام طويلة هناك حوضان كبيران مخصصان للزرع، كانت تسكنهما شجيرات “ورد دمشقي”، وماتت، كمية التربة الباقية فيها مثالية لدفن جثث سجائرك المختلسة على عجل، هذان الحوضان يأتيان من توأم ثلاثي، أين أخوهما؟ إنه خلف النافذة، واقف بجانبك، يرقب المشهد.

إنه لا يرقب شيئًا، لست غبية، إنه مجرّد حوض، لكنّ له مكانة ما لديك، أحببته منذ اللحظة التي سقيتها كأس الماء الأول، وتوليت هذه المهمة عن صاحب البيت المشغول عنها دائمًا، رغم أنه وقع في حبها اثني عشر عامًا مضوا حين حملها شتلة صغيرة من أرض فلسطين، شجرة الزيتون.

عبرت هذه الشجرة حدود فلسطين، وتخطّت تفتيش الجنود الإسرائيلين، ورغبتهم باعتقالها، صعدت إلى الطائرة، وأتت إلى فرنسا، إنه لأمر مثير حقًا، إنها شجرة زيتون، ليست شجرة زينة، إنها رمز كل ما هو مُنتج في هذه الحياة، لكنها تجلس هنا حيث ماتت ابنة عمتها شجرة الورد الدمشقي، وتركت حوضًا جاهزًا لاحتضانها، وهذه وقائع حقيقية أرويها لك، وعليك أن تفهم قصدي من روايتها، إنه واجبك أن تفهمني.

إنها رقيقة، جميلة، مشنوقة بحبل أحمر إلى السقف، إنه يشنقها ليبقيها منتصبة، لألّا تنحني، بإمكانها أن تجلس هكذا، عاطلة عن العمل والإثمار، وتهرّ الورق ككلّ الأشجار، لكن محرّم عليها أن تنحني.

أقسم أن هذه الشجرة لها مشاعر حقيقية، قرأت عن مشاعر الأشجار في مقال علمي، إنه أمر حقيقي لا أخترعه لأكتب، يوم أحرقوا شجر فلسطين بكت، كانت تبكي، لم تتألم على أخواتها، إنهم استحالوا رمادًا، والهواء لم يخضع بعد لشنغن، سيحملهم لها يومًا ليس ببعيد.

بكت يومها شماتتهم، كيف لهم أن يجرّدوها من جنسيتها في منفاها البعيد، إنها فلسطينية، وليست “زيتونة شوارع”، إنها زيتونة حقيقية، تعاني الاكتئاب الحاد وسوء التغذية، لكنها زيتونة، احترقت أخواتها دونها، من حقها أن تحزن دون أن تتهم بمعاداة السامية والإنسانية، ومن حقها أن ترش الشتائم في وجه العالم، وليس لأحدهم أن يمنعها أو يؤجلها، ليس للزيتون مواسم، إنه شجر دائم الشموخ.

ماذا أقول لك أكثر؟ إنه الزجاج، اختراع عجيب حقًا، يحجب كل شيء عنك دون أن يقصيك من المشهد، ودون أن يستفز فوبيا الأماكن المغلقة والسجون فيك، لمّعه بكل الجرائد، بكل اللغات، ادعكه ليل نهار، إنه زجاج ولا يمكن أن يكون في العمق إلا شفافًا.

وخلفه، بعد أن ينام السرو في المخازن، الزيتونة المشنوقة حدّ الشموخ ستشمخ، وستنتصب هذه النافذة أبدًا بينها وبين الغابة، وليس لها سوى إرث الزيتون يعزّيها.

ميلادًا مجيدًا، لكل زيتونات المنافي، أينما كانت مشنوقة لتشمخ.

ألمانيا: التخلص من آلاف النسخ المترجمة من القرآن، معضلة بانتظار الحل

حلا قوطرش، صحافية سوريّة أعطت ألمانيا برنامجًا إذاعيًا باللغة العربية