in

اقتفاء أثر المجاز الأول

اللوحة للفنان أنس سلامة
صالح قادربوه | شاعر من ليبيا

أشبه ما يكون بالمسافة الساحرة بين الإنسيّ وهواجسه، أو بالخوف من المخفيّ قبل اقتناصه على الحالتين، صورة صافية للرؤيا العالية، وتساقط النبأ يانعا، الجبل الممتد، القريب البعيد، برؤوسه المهيبة كمداخن إنضاج الأقاصيص، في مسار القوافل قديمها وجديدها، بين غات وتهالة، بجزئه الشماليّ الغربيّ المسكون كما تفصح العيون الحذرة، من ارتقاه عاد ضاحكًا، ومن بات فيه أضاع نار الوافدين، ومن مرّ به لم ينفكّ يجس الحصى، ويقترح الرجوع والمواصلة معًا.

(كاف الجنون) امبراطورية العالم الغيبيّ، والهدنة الأبدية بين الصلد والناعم، المدخل الليبيّ الواسع للصحراء الشاسعة.

قال الناس هناك ويقولون إن الأطياف تجلت لهم وتتجلّى في الحيوان (الأرنب، القط، الكلب، الغزال، الأفعى) وفي التمازج الخرافيّ بيننا وبينه، وكأن مصادفة السينما هي فقط ما ينقص ذلك الجموح، وتلك المحجّات.

 

تفتح الريح صفحة الحكاية: “تنكر الذئب بثوب من المخمل، وأخذ ينادي الحيوانات “تعالوا لتتوبوا إلى الله، فالقيامة قد اقتربت”، تجمعت الحيوانات منتبهة لكلام الواعظ، قال لهم: “سامحوا بعضكم” فسامحوا بعضهم، ثم صرخ: “أين الذئب اللعين؟ لا أراه بينكم”، وحين أجابوه أنهم لا يعلمون، أمرهم أن يسامحوا الذئب فسامحوه، وأتت زوبعة فصاح فيهم: “اذهبوا، فريح القيامة قد أتت”، فتفرقوا مذعورين، لكن الأرنب اختبأ خلف شجرة ورأى الثوب ينكشف فينقلب الواعظ ذئبا،

ولمحه الماكر فأمسكه وقطع لسانه”.

 

وتفتح الحكاية صفحة الحكمة: “إهاني أمغار إجانن أوريهني ألياض إبدادن”، إذ تعلمنا عجائز الطوارق أن “الكهل المحدودب يرى ما لا يراه الشاب الواقف”.

 

وتفتح الحكمة صفحة الشجن: يسري في روح الطوارق إحساس متوارث بالضياع الوجودي، مما خلق منهم شعبًا حالمًا فنانا، وقد جاء في أمثالهم الشهيرة “إيموهاغ أميهغن/ الطوارق مفقودون”،  ومفردة (أماهغ) في لغتهم تدل على النبيل الغريب الضائع السليب المتروك، حتى أطلقت عليهم شعوب الجوار (توارك).

 

تميز طوارق الصحراء الإفريقية الكبرى بغلبة الأساطير المرويّة على آدابهم، واشتهروا بحب الغناء والرقص والقتال والتفنن في صناعة الملابس وزخرفة البيوت، لكنهم لم ينسوا نصيبهم من ترياق الشجا (الشعر)، فقالوه غزلا وحماسة، وأرّخوا به أمجادهم وأيامهم وحروبهم، ووصفوا به علاقتهم بالأمكنة.. يقول الشاعر الكيدالي الكبير (حمودن):

“كيدال مغراس

وريها فور الخدمت هاس

أنديكت تيط تاد إجا أجلاف

مشام أتت نيّ ننشاس

تميغاتر ولا فلاس”.

فكيف يأتي الرزق فيها وإليها؟ وهو يأتي فيها وإليها، إنه سر لا ينطوي عليه إلّا أهلها، ممن علمناهم وممن لم نعلم، وسنتركه لهم، لكننا سنستعير منهم الدهشة، وسنعلق قلوبنا فوق جداريات أكاكوس، وفي أعناق أميرات متخندوش.

 

إن الصراع القديم بين الرمل والجبل في الصحراء الكبرى لم يكن مجرد حرب صغيرة بين ساكنين أساسيين من سكانها، بل هو تموج يليق بفكرة التشكل، فكرة النحت، في اقتران العلو بالضلال، والوديان برقص الزوابع الرملية، سر حميم، ينطوي داخل لثام الصحراوي، وفي تشقق أيدي الراعيات نهارا، مديرات الرحا في الأمسيات الهادئة.

 

ثم (السماح)، الأرض المنبسطة قبل الدخول إلى سينوغرافيا هائلة، في مساحة الجحوظ الملتذ، فجبال أكاكوس تعرفنا بالشكل الشخصي للطواطم، (آضاد) الصخرة الإبهام، والجبل السلحفاة، والجبل المتصوف الجالس، والجبال الدالة على الكثير، الذي يندر فيما عدا تلك الفيافي الغارقة في الظل، والقريبة جدا من السقف، والتوهج.

 

وبين غدامس الأنيقة، وجرمة المنهكة من الحفر في كهف التاريخ، يمكن اصطياد مسيرة الكبار، والصغار، ممن مسحوا بشرة تلك النهود الصحراوية الزاحفة بحدة عيونهم، وسعة أرواحهم، وصلابتها.

 

ولا ينفك يراودنا هاجس أن لسكان الصحراء هؤلاء أصابع طويلة وقامات مهيبة، وأنهم يندسون في كل ثنايا الطريق، في المنعرج، والعالي، والعميق.. لكنهم بشر مثلنا، يميزهم عنا فقط تدفق أحلامهم، وصوت مخيالهم الرخيم.

 

وفي الزوادة صبر، وحنين، وصمت، وخوف ناضج، وإقدام، كما المسار، القاسي، المنبسط، الثابت، المراوغ، الرحب.. وفي الزوادة قمح وجوه، وخبز أرواح، أشياء من السقف، تتدلى، وأشياء من الأرض، ترنو.. وفي الرحلة معرفة، وحدس، وتجربة، وانكسار وهم، وانبناء هواجس، وفيها صداح، وهسهسة، وأنين، وعشق مسكوت عنه.. وفي الصحراء إنس، وجان، وحيوان، ونبات، ورمل، وماء، وسراب، وكتاب محفوظ، وجبال، وسفوح، ووديان، وأفق، وسلاطين، وعبّاد، وحكايا لا تموت.. وفي الصحراء نبض يولد مع الطارقية، ويمتد في أبنائها، في العروق النافرة، والعيون السهام.. وفيها حق وعدل، وقوانين لا تلاعب فيها، ومصائد.. وفي الجنوب الليبي مفتاح باب الكنوز، وأذان بولوج ما لم تر عين المدني، ولا سمعت أذن الحضر، سجادة صفراء عليها الخطا تنحو باتجاه ما بعد، أليس الاندهاش  بقريب؟

لم الشمل: نهاية انتظار أم نهاية حياة؟

عدنان العودة: ما تعرضت له من حاتم علي وإياد أبو الشامات لا يمت للأخلاق الفنية بصلة.