in ,

السوريون في ألمانيا والتفكير في المستقبل

DW

بات معروفًا، أن ألمانيا الاتحادية هي البلد الذي استقبل الحصّة الأكبر من نحو مليون مهاجر عبروا البحر المتوسط باتجاه أوروبا خلال عام واحد فقط انضمّوا إلى من سبقوهم. وبعيدًا عن الخوض في مدى دقّة الإحصائيات والتقديرات المتداولة التي تتناول أعداد السوريين الذين وصلوا إليها، فهي متغيرة بطبيعة الحال ولا تخلو من مبالغات أحيانًا، غير أنّ ما أجمعت عليه أرقام ونسب مختلف المصادر يؤكّد أنّ السوريين يشكّلون حاليًا النسبة الأكبر من العدد الإجمالي للاجئين أو طالبي اللجوء في ألمانيا.

أعتقد أنّه ليس من الصعب توقّع أنّ إقامتنا في ألمانيا ستطول. ذلك أنّ كثيرًا من السوريين يسعون جدّيًا لاجتياز حاجز اللغة، والفرص متاحة بالفعل أمام من يرغب بذلك، ومن ثمّ سيتمكّن هؤلاء من الدخول في سوق العمل، لا سيما من يمتلك منهم مؤهّلات علمية أو مهنية قد تساعده في هذا. وهو ما يعني القدرة على الاستغناء عن المساعدة الاجتماعية التي يتلقّونها من الحكومة حاليًا والاعتماد على أنفسهم. بالتالي ثمّة في المدى المتوسط فرصٌ جدّية للاستقرار وتمديد وثائق الإقامة استنادًا إلى العمل، وفق القوانين المعمول بها، وليس لذات “الأسباب الإنسانية” الحالية التي أدّت إلى منحهم حق الإقامة بعد الاعتراف بهم كلاجئين، والتي يُفترض أنه بزوالها لن يُتاح للكثيرين أن يمدّدوا إقامتهم في ألمانيا من دون أن يكونوا قادرين على إعالة أنفسهم.

كذلك بالنسبة لمن هم أقل تعليمًا وتأهيلاً، إذ لا يبدو أن عودتهم أو حتّى إعادتهم إلى بلادهم ستكون قريبة، فالمؤشرات الدالّة على طول أمد الصراع في سوريا وعدم وجود أي حل يلوح في الأفق يضع حدًّا للكارثة الإنسانية تعزز هذه الفرضية، وبالتالي هم باقون في ألمانيا لمدة لا يُعرف متى ستنتهي. مع ذلك لا يجدر بهم الركون إلى هذا والاستمرار بالاعتماد على وضعية اللجوء، إذ ليس ببعيد مثال آلاف العائلات من دول يوغسلافيا السابقة أو العراق وغيرها تمّ ترحيلهم بزوال أسباب لجوئهم.

مؤدى ما تقدّم يدفع إلى القول إنّ “جاليةً سوريّةً” لا يُستهان بحجمها، بل وربّما “مجتمعًا سوريًّا”، في طور التشكّل الآن في ألمانيا (كما في سواها من بلدان اللجوء)، وهو ما يضعنا كسوريين في المنافي أمام استحقاقات جمّة تتطلّب التفكير بها والتعامل معها بجدية، فهي تتجاوز مسألة “الاندماج” التي قيل فيها الكثير إلى ما هو أبعد من ذلك. أي إلى البحث في سبل تنظيم أنفسنا لتحسين شروط حياتنا الجديدة والتعامل مع تحدّياتها، بوصفنا مجموعة باتت بحكم الأمر الواقع جزءًا من سكان هذه البلاد، نتشارك فيما بيننا ظروفًا متشابهة إلى حد كبير، وتعترضنا المشكلات ذاتها تقريبًا، ما يعني وجود مصالح مشتركة يجب تحقيقها والدفاع عنها.

تتأكّد الحاجة إلى تشكيلات من هذا النوع في ظلّ غياب الدور الذي يفترض أن تلعبه البعثات الدبلوماسية السورية من متابعة شؤون مواطنيها، فهي كانت ولا تزال امتدادًا لنظام الاستبداد، تمثّله وترعى مصالحه وتعمل على تلميع صورته، عدا عن وظيفتها القذرة طوال عقود، إذ تحصي على السوريين في الخارج أنفاسهم، لا سيما المعارضين منهم، كجزء من مهامّها “الأمنية”، وكم من السوريين المقيمين في الخارج، للعمل أو الدراسة، اعتقلتهم أجهزة المخابرات عند عودتهم إلى بلادهم، استنادًا إلى تقارير مخبري السفارات.

على أي حال، التنظيم المشار إليه لا يتعلق إطلاقًا بخلق “غيتوهات” مغلقة، ولا الانغلاق والتقوقع على الذات تحت شعارات “الخصوصية” أو بذريعة قصور سياسات “الاندماج” أو فشلها. وهنا يجدر التحذير من الدور المشبوه الذي تقوم به تيارات تحمل أجندات معينة، تغرّر بالوافدين الجدد مستغلّةً مشاعرهم الدينية لتنتهي بهم إلى ما لا يُحمد عقباه.

ما نحتاجه هو إيجاد أشكال من الجمعيات والروابط والاتحادات الطوعية التي يتنظم فيها السوريون، كمؤسسات مجتمع مدني تعبّر عنهم وتدافع عن مصالحهم، وهو ما افتقدته سوريا طوال عقودٍ من الاستبداد المزمن، حُرم فيها السوريون من كافة أشكال التجمع والتنظيم أو التعبير عن تطلعاتهم بحرّية، في حين أنّ فرصةً ذهبية تلوح أمامهم لخوض هذه التجارب واختبارها مستفيدين من مناخ الحرية والديمقراطية في مستقرّهم الألماني. على أن هذا لن يغني عن الانتظام في الجمعيات والنقابات والاتحادات الألمانية مستقبلاً، لكل من يستطيع أن يجد إلى سوق العمل سبيلا.

ليس من المجدي أن يتعامل اللاجئون مع حياتهم في البلد المضيف كحالة عارضة ومؤقتة لمجرّد أن أسباب مجيئهم هي بالأساس طارئة واضطرارية، ولا بأس من التفكير بعقلية “المهاجر” المستقرّ لا “اللاجئ” العابر.

يبقى القول، لنعش لبلدنا كأننا سنعود غدًا ولمستقرّنا الجديد كأننا مقيمون فيه أبدًا!

مقالات ذات صلة:

نحو قيادة سياسية

نحو صوتٍ عالٍ للاجئين والمهاجرين في ألمانيا

مهرجان الفيلم العربي السابع في برلين

لقاء السوريين في الغربة